الاجماع .. كأحد مصادر التشريع الاسلامي


الاجماع .. كأحد مصادر التشريع الاسلامي
د. سيد عبدالماجد

ان استنباط الاحكام الشرعية مسألة عظيمة الاهمية في الاسلام ، لذلك فقد نظم علم اصول الفقه آلية محددة لمجموعة الادلة التي يتوصل بها الى الاحكام الشرعية في المسائل التي تهم المسلم من خلال المصادر او الادلة المستقر عليها في الفقه الاسلامي.
ولقد استقر علم اصول الفقه في نظم وترتيب القواعد التي تستنبط منها الاحكام الشرعية ، وهى القرآن والسنة والاجماع والقياس، على الترتيب السابق ، فالقرآن هو المصدر الاساسي للتشريع ، يليه السنة النبوية بما فسرت من احكام عامة وردت في القرآن وبما خصصت من احكام عامة وردت به وما قيدت واوضحت من احكام مطلقة. ثم يأتي الاجماع بين المجتهدين بمثابة الدليل الثالث الذي يستمد منه الاحكام الشرعية ، ويليه القياس[1].
فاذا عرضت واقعة ما يراد معرفة الحكم الشرعي لها ، فإن مقتضى قواعد اصول الفقه ، هو الرجوع اولا الى القرآن فإن وجد فيه حكمها طبق عليها ، وان لم يوجد فيه حكمها ينظر في السنة فإن خلت من حكم، ينظر في اجماع المجتهدين على حكمها ، فإن لم يوجد فيكون الاجتهاد بحكم عن طريق قياس الواقعة على ما ورد النص بحكم لها.
اذا تبدو الاهمية العملية لهذ ه الادلة في اشباع حاجة الناس لحكم الشرع في اقوالهم وافعالهم ، فكما ان القانون الوضعي ينظم القواعد التي تحكم معاملات الناس ، فإن دراسة القواعد الفقهية ومنها الاجماع وتطبيقها على الادلة التفصيلية تؤدي الى معرفة حكم الشرع في معاملات الناس ايضا.
ونتناول بالبحث " الاجماع" من حيث مفهومه واركانه وحجيته وانعقاده وانواعه في اربعة مطالب متتالية ، على النحو الاتي:
المطلب الاول : مفهوم الاجماع ونشأته في الفقه الاسلامي
المطلب الثاني: اركان الاجماع وانعقاده
المطلب الثالث: انواع الاجماع
المطلب الرابع : حجية الاجماع كأحد مصادر التشريع



المطلب الاول
مفهوم الاجماع ونشأته في الفقه الاسلامي
اولا – مفهوم الاجماع
التعريف اللغوي: يقصد بالاجماع في اللغة العربية احد معنيين[2]:
المعنى الاول: العزم على الشئ والتصميم عليه ، فيقال : اجمع فلان على السفر اذا عزم عليه واجمع القوم على السير اذا عزموا عليه ، وقال تعالى في سورة يوسف " واجمعوا ان يجعلوه في غيابة الجب" اي عزموا ان يجعلوه . وقال تعالى " فإجمعوا كيدكم ثم اتوا صفا" اي اعزموا على كيدكم. وفي الحديث الشريف " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" اي من لم يعزم عليه من الليل فينوي الصيام.
المعنى الثاني: الاتفاق على شئ ، فقد جاء في الحديث " لاتجمتع امتى على ضلالة" اي لا يتفقون عليها.
التعريف الاصطلاحي للاجماع: يقصد بالاجماع في الاصطلاح اتفاق المجتهدين من المسلمين على حكم شرعي.

ثانيا - نشأة الاجماع بالمعني الاصطلاحي في الفقه الاسلامي:
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن هناك حاجة الى الاجماع ، فقد كان يقضي بما يوحى اليه من ربه وباجتهاده النبوي.
وفي مرحلة تالية حيث دور الصحابة بعد وفاة الرسول فقد كانوا يقضون بالنصوص وما يستنبطونه منها بحكم معرفتهم بالرسول وباسباب النزول ومقاصد الشريعة.
وباتساع رقعة العالم الاسلامي وتطبيق مبادئه واحكامه على اقاليم واسعة ومتنوعة الثقافة وظهور وقائع جديدة لم تكن موجودة في عصر الرسول ولا يوجد فيها نص ، فكانت الحاجة الى ايجاد حكم لهذه الوقائع.
وفي القرن الثاني الهجري برزت الرغبة في صياغة احكام شرعية استنادا الى اصول ثابتة ، فنشأ علم اصول الفقه على يد الامام محمد بن ادريس الشافعي في رسالته الاصولية ، واستقر هذا العلم على الاستناد الى الادلة الاربعة بترتيبها : القرآن ، السنة ، الاجماع ، القياس. لاستنباط الاحكام الشرعية[3].
خلاصته:
ان المقصود بالاجماع اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور على حكم شرعي لمسألة لم يرد فيها نص من القرآن والسنة، وقد تم توثيقه كمصدر ثالث للتشريع عن طريق الامام الشافعي تلاه الكثير من ائمة الفقه الاسلامي. اي ان اتفاق المجتهدين على حكم شرعي لمسألة يعد مصدرا للتشريع .. فإذا كان ذلك هو المفهوم المتفق عليه – لدى الفقه الاسلامي- فإن هذا التعريف يتضمن اركان للاجماع يجب ان تتوافر بها والا فلا ينعقد الاجماع .. في المطلب الثاني نتناول هذه الاركان.
المطلب الثاني
اركان الاجماع وانعقاده
لاهمية هذه المسألة سوف نقسم البحث فيها الى فرعين لاستعراض اركان الاجماع في فرع اول ، يليه امكانية انعقاده في فرع ثان.
الفرع الاول
اركان الاجماع
اذا كان الاجماع – على المفهوم الاصطلاحي واللغوي السابق بيانه- هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور على حكم شرعي ، فيمكن استخلاص اركان الاجماع الواجبة في الاتي:

اولا- اتفاق جميع المجتهدين
يجب ان يكون الاتفاق على حكم شرعي لمسألة ما  بين المجتهدين باعتبارهم اهل النظر في الاحكام الشرعية لما لديهم من فهم للحجة والبرهان ، وبذلك لا يكون لعامة الناس حق الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي ومن ثم يستبعد المثقفين في امور اخرى من الافتاء والقضاء ، كما يستبعد العوام بالضرورة[4].
كما ان اتفاق المجتهدين يجب ان يكون في شكل اجماع من جميع المجتهدين المسلمين وقت وقوع المسألة على حكم شرعي لها .
ويشترط ان يكون المجتهدون جماعة بلغت حد التواتر ، وفي رأي البعض يكفي ان يكون المجتهدون ثلاثة.
وبناء عليه فلا ينعقد الاجماع على مسألة بين جمهور من المجتهدين على خلاف مع بعضهم،ومن ثم يستبعد الحكم المستنبط من هذا الجمهور. فلو اتفق مجتهدو الحرمين فقط او مجتهدو العراق فقط او مجتهدو اهل السنة دون مجتهدي الشيعة فلا ينعقد شرعا بهذا الاتفاق الاجماع ، فلابد وان يكون الاجماع من كافة مجتهدي العالم الاسلامي في وقت المسألة.

ثانيا-  المجتهدون المسلمون
لا ينعقد الاجماع الا من المجتهدين المسلمين دون غيرهم من اصحاب الديانات والممل الاخرى .
ثالثا- توقيت الاجماع
يجب ان يكون الاجماع على المسألة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم يستبعد الاجماع الموافق لحياته [5]، ذلك ان اتفاقهم على حكم شرعي في حياة الرسول وموافقته على اتفاقهم فإن هذا الحكم يدخل في السنة النبوية ، فإذا خالف الرسول اتفاقهم سقط هذا الاجماع ولا يعتد به.
كما يجب ان يكون الاجماع في عصر من العصور ، فيكفي اتفاق المجتهدين المسلمين على حكم شرعي لمسألة في العصر الاموى ويعتبر الحكم الشرعي المستند لها اجماعا ، ومن ثم لا يشترط ان يستمر الاجماع على حكم المسألة في كافة العصور للقول بتوافر الاجماع ، فاتفاقهم في عصر واحد كاف للقول بحكم الاجماع في المسألة.


رابعا- الاجماع الصريح
يجب ان يكون الاتفاق بين المجتهدين من المسلمين في ارجاء العالم الاسلامي على حكم شرعي اتفاقا صريحا بأن تم ابداء الرأي او الفتوى او القضاء بشكل صريح في هذا العصر[6].
الفرع الثاني
مدى امكانية انعقاد الاجماع
فإذا اجتمع للاجماع هذه الاركان ، فهل ينعقد الاجماع ؟
اذا توافرت للاجماع اركانه ، فمن المتفق عليه ان ينعقد الاجماع .
 الا ان هناك مسألة اولية اختلف العلماء حولها !! وتتمثل في مدى امكانية انعقاد الاجماع.
الرأي الاول المناهض لامكانية انعقاد الاجماع
فقد ذهب طائفة من العلماء المسلمين الى القول بعدم امكانية تحقق الاجماع ، وقد استندوا الى الحجج الاتية[7]:
اولا – صعوبة تحديد المجتهدين
فهناك صعوبة كبيرة في معرفة المقاييس التي يتحدد بها  المجتهدين ، فكيف يمكن معرفة ان الشخص قد بلغ مرتبة الاجتهاد ، ولا يوجد حكم شرعي يبين متى يعتبر الشخص مجتهدا.
ثانيا- صعوبة اليقين في الاجماع على المسألة
اذا كان الدين الاسلامي منتشر في كافة ارجاء الارض ، فمن الصعب معرفة اراء جميع المجتهدين على وجه اليقين باعتبار تباعد المسافات واختلاف اللغات والثقافات.
ثالثا- صعوبة تحقق الثبات على الرأي
فقد يفضي المجتهد برأية في المسألة ولا يلبث ان يرجع عنها ، ومن ثم فلا ينعقد الاجماع لاختلاف الرأي
رابعا- صعوبة الاتفاق حول الدليل الظني
اذا كان المتفق عليه انعقاد الاجماع على الدليل القطعي ، الا ان الدليل الظني قابل للاختلاف عليه ، وهو ما يعني استحالة الاتفاق على رأي بشأنه ومن ثم استحالة انعقاد الاجماع.
الرأي الثاني لجمهور العلماء المؤيد لامكانية انعقاد اركان الاجماع:
اكد جمهور العلماء على امكانية توافر اركان الاجماع من خلال عدد من الامثلة مثل انعقاد الاجماع في خلافة ابي بكر ، وتحريم شحم الخنزير ، وتوريث الجد السادس .. والعديد من الامثلة الاخرى.
وأرى :
يتفق الباحث مع الرأي الاول الذي اثبت بادلة منطقية مترابطة صعوبة بل واستحالة انعقاد الاجماع على المفهوم الفقهي المطلوب ، فقد جاءت الحجج التي ساقها هذا الفريق مقنعة للباحث ، كما ان الامثلة التي اوردها الرأي الثاني يمكن الرد عليها بأنها امثلة جاءت في عصر من الممكن ان تتوافر فيه اركان الاجماع وخصوصا ان العالم الاسلامي اقليميا لم يكن منتشرا في كافة ارجاء الارض كما هو الحال في عصرنا مثلا.
فاذا نظرنا الى عالمنا الاسلامي اليوم وقد انتشر في كل اقاليم الكرة الارضية وتداخلت فيه اللغات والثقافات والفكر العلمي المعاصر وغيرها من المعطيات التي لا يمكن بحال ان تؤدي الى وضع مقاييس موحدة لمعرفة المجتهدين ولا الى الالمام بكافة المجتهدين في كافة ارجاء الارض ولا الى اتفاقهم اجماعا .
كما ان الباحث يختلف مع رأي العديد من العلماء المسلمين المعاصرين ، فقد رأي الدكتور عبدالوهاب خلاف امكانية انعقاد الاجماع في عصرنا الحالي ، حيث قال " ان الاجماع بتعريفه واركانه لا يمكن انعقاده اذا وكل امره الى افراد الامم والاسلامية وشعوبها ، ويمكن انعقاده اذا تولت امره الحكومات الاسلامية على اختلافها" ويشرح هذا الفرض بقوله " فكل حكومة تستطيع ان تعين الشروط التي بتوافرها يبلغ الشخص مرتبة الاجتهاد ، وان تمنح الاجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط ، وبهذا تستطيع كل حكومة ان تعرف مجتهديها وآرائهم في اية واقعة. فإذا وقفت كل حكومة على اراء مجتهديها في واقعة ، واتفقت اراء المجتهدين جميعهم في كل الحكومات الاسلامية على حكم واحد في هذه الواقعة ، كان هذا اجماعا وكان الحكم المجمع عليه حكما شرعيا واجبا اتباعه على المسلمين جميعهم."
الا اننى لا اؤيد ذلك الرأى ، واحتج عليه بالاسانيد الاتية:
اولا- عدم تحديد المقصود بحكومة اسلامية : فلم يحدد هذا الرأي المقصود بالحكومة الاسلامية التي يفوضها في وضع القواعد المانحة لاجازة الاجتهاد.
ثانيا-  استبعاد مجتهدين لا ينتمون الى الدول الاسلامية : ان القول بأن تقوم الحكومات الاسلامية – على فرض وجودها- بوضع معايير تحدد كيفية الحصول على اجازة الاجتهاد ، هو قول يتجاهل انتشار الاسلام في كافة ارجاء الارض وفي دول لا تحكمها الحكومات الاسلامية ، فما موقف هؤلاء المجتهدين اذا كان رأيهم على خلاف مجتهدي الحكومات الاسلامية.
ثالثا- شبهة تداخل المصالح السياسية في وضع المعايير : هناك شبهة في تداخل المصالح السياسية للحكام عند تحديد معايير الاجتهاد ، ومن ثم فقد يقع الاختيار على هؤلاء الذين يوالون الحكام وآرائهم.
رابعا – عدم انعقاد الاجماع في اي عصر من العصور:  يؤكد هذا الرأي انه لم يحدث في اي عصر من العصور الاسلامية بعد وفاة الرسول ان انعقد الاجماع ، وقد ايد رأيه بالعديد من الاسانيد التي نتفق معه فيها وفصل رايه في ذلك سواء ما حدث في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة او في القرن الثاني الهجري .
وما يثير الغرابة هنا هو انه كيف يقول هذا الرأي بعد ذلك بامكانية انعقاد الاجماع على الرغم من انكاره لحدوث الاجماع في اي عصر من العصور بعد وفاة الرسول.
خلاصته :
 ان هناك اركان للاجماع يجب ان تتوافر للقول بانعقاده ، وقد ايدنا الرأى الذي ذهب الى عدم امكانية انعقاده. ولو افترضنا جدلا امكانية انعقاده فما هى انواع هذا الاجماع ؟ وما مدى حجيته كدليل لمعرفة الحكم الشرعي؟ هذا ما سنتاوله بالترتيب في المطلبين التاليين:


المطلب الثالث
انـــــــــــــــــــــــــواع الاجمـــــــــــــاع
استقر علماء الفقه الاسلامي على أن هناك نوعين من الاجماع[8] :
اولا – الاجماع الصريح : يقصد به اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي لمسألة معينة ، شكله ، رأي صريح في الواقعة افتاءا وهو اجماع قولي او كتابي ، ورأي صريح في الواقعة قضاءا وهو اجماع فعلي.
وفي مذهب جمهور الفقه يعتبر هذا الاجماع هو الاجماع الحقيقي المعتبر.
ثانيا- الاجماع السكوتي : يتألف من رأي جميع المجتهدين على حكم شرعي في عصر من العصور بشأن مسالة معينة ، شكله ، مركب من اتفاق صريح لفريق من المجتهدين يضاف اليه رأي سلبي يستنبط من عدم مخالفة باقي المجتهدين لذلك الاتفاق الصريح. حيث يبقى بعض المجتهدين ساكتين رغم مضي مدة من التأمل والتفكير في الحكم ولا يمنعهم مانع من اعلان المعارضة.
وقد ذهب جمهور الفقه الى ان الاجماع السكوتي لا يعتبر اجماعا حقيقيا وانه ليس حجة . فيما ذهب علماء الحنفية الى انه حجة اذا ثبت ان المجتهد الذي سكت عن ابداء رأيه صراحة قد مضى على سكوته فترة كافية لتكوين رأيه مع ذلك سكت عن ابدائه.
ورأي الحنفية في ذلك منتقد ، علة ذلك ، ان الساكت من المجتهدين امره يثير الشك في اتفاقه اكثر من اليقين في موافقته ، اذ انه لو كان متفقا مع ما ابداه صراحة غيره من المجتهدين لكان اعلن عن رأيه صراحة باعتبار ان هذا حقا يجب ان يبديه. اما وان سكت فلا يمكن التعويل على السكوت بالموافقة والرضا فقد يكون هناك من الظروف التي لا يستطيع معها المجتهد ابداء رأيه بل قد لا يكون على اطلاع على ما صرح به غيره .
وأرى:
سبق ان انتهينا الى صعوبة تحقق الاجماع فيما سبق من عصور ، بل واستحالته في العصر الحالي الذي تباينت فيه المذاهب والاراء وانتشر فيه المجتهدين في ارجاء الارض ، وتغايرت الثقافات وتباينت اللغات ، واستحوذ المنهج العلمي بمبادئه ومنطقه الذي يحكمه غالبا صعوبة التوصل الى نتائج موحدة.
اذا كان ذلك فإن الاجماع الصريح والسكوتي ايضا لا يمكن ان يتحقق على ارض الواقع  في عصرنا الحالي.

خلاصته:
لقد اتفق علماء الفقه على ان هناك نوعان من الاجماع اولهما الاجماع الصريح قولا كالافتاء او فعلا كالقضاء ، وثانيهما الاجماع السكوتي ويجمع بين الاتفاق الصريح القولي او الفعلي لمجموعة من المجتهدين وسكوت باقي المجتهدين عن الادلاء برأيهم في ذا المسألة.. فهل لكل من النوعين ذات الحجية كمصدر شرعي ؟ هذا ما سنتاوله في المطلب الرابع.
المطلب الرابع
حجية الاجماع كأحد مصادر التشريع الاسلامي
ان اتفاق العلماء على حكم شرعي لواقعة ما يعتبر دليلا على موقف الشرع من واقعة بعينها ، وبالنظر الى تقسيم العلماء الى الاجماع الى صريح واخر سكوتي ، فإن النظر في آثار كليهما تختلف من حيث قوته ومدى اعتباره كحجة شرعية.. كيف ذلك؟
استقر الفقه الاسلامي[9] على ان الاجماع قد يكون قطي الدلالة او ظني الدلالة..!
الاجماع قطعي الدلالة: هو الاجماع الصريح ، اي انه ابداء الاتفاق القولي بالافتاء او الفعلي بالقضاء صراحة من جميع المجتهدين المسلمين في عصر من العصور على حكم شرعي لواقعة معينة.
هذا الاجماع بهذا الشكل والمفهوم يمثل – شرعا- حكما قطعيا لا سبيل الى الحكم بخلافه ، فلا مجال للاجتهاد في واقعة بعد انعقاد اجماع صريح على حكم شرعي فيها.
الاجماع ظني الدلالة: وهو الاجماع السكوتي، اي ان سكوت نفر من المجتهدين يظلل قيمة واثر الحكم الشرعي المستمد من الاجماع بظلال من الظنية تضعف اثره كحجة ، ومن ثم فمن الممكن ان يكون الحكم الشرعي المبني على الاجماع الظني مثارا للاجتهاد مرة اخرى .
اذا كان ذلك فما هى اسانيد حجية الاجماع الصريح القاطع الدلالة ؟
وفقا لرأي جمهور الفقه فان الاجماع الصريح هو المصدر الثالث من مصادر الفقه الاسلامية ، وقد قيل في اسانيد ذلك الحجج الاتية[10]:


اولا – حجية الاجماع  في القرآن الكريم
استند الجمهور على عدد من الايات القرآنية في تأكيد دور الاجماع كمصدر تشريعي ، ومنها :
-   قال تعالى :" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا."[11]
-   قال تعالي:" يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الامر منكم فإن نتازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول."[12]
-         قال تعالى : " كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ."[13]
ثانيا – حجية الاجماع في السنة النبوية
دعم الجمهور حجية الاجماع من الاحاديث النبوية ، ومنها  الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع امتى على ضلالة"، وقد قيل في تفسير ذلك الحديث ان النبي قد امر باتباع اجماع المسلمين في ما يقر من حل وتحريم.

ثالثا- حجية الاجماع من اجماع الفقهاء
يرى جمهور الفقهاء[14] خاصة في العصور الاولى للاسلام انه لابد للاجماع من دليل وسند يعتمد عليه المجتهدون في الحكم الذي اجمعوا عليه، ذلك لان الاجماع من غير سند يؤدى الى احداث حكم جديد بعد وفاة الرسول وبالتالي فهو باطل. فالقول في الدين لا يجوز بغير دليل.
وسند الاجماع قد يكون القرآن ، فكما حدث الاجماع في تحريم الزواج من الجدة استنادا الى قوله تعالى " حرمت عليكم امهاتكم" فالمقصود بالام في الاية هو مفهوم مطلق ينطبق على الجدة.
وسند الاجماع قد يكون السنة النبوية ، كاتفاق المجتهدين على منع بيع شئ من المطعومات قبل ان يقبضه المشتري من البائع ، استنادا الى الحديث الشريف " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه."
وسند الاجماع ايضا قد يكون قياسا ن كاتفاق الصحابة على خلافة ابي بكر قياسا على امامته في الصلاة.

وأرى:
ان الحجية هى اثر لازم لثبوت الدليل.
ولما كان الاجماع بمفهومه واركانه غير قابل للتحقق – في رأي الباحث- فإن الاجماع كدليل ومصدر غير قابل للتحقق في عصرنا الحالي .
وينبني على ذلك ان الحجية تضعف ازاء عدم امكانية انعقاد الاجماع .
الا ان هذه النتيجة لا تتنافي مع كون حجية الاجماع تستند الى القرآن والسنة واجماع الفقهاء ، فالحجية يمكن ان تثبت لحكم شرعي توصل اليه اجماع المجتهدين في العصر الحالي ، اذا انعقد هذا الاجماع بالفعل ، وهو امر غير قابل للتحقق في رأي الباحث.
خلاصته:
ان حجية الاجماع المعتبر تتأتي من الاجماع الصريح دون الاجماع السكوتي ، وسند الحجية يرجع الى نصوص القرآن والسنة واتفاق الفقهاء على حجيتها.. مع مراعاة صعوبة انعقاد الاجماع واقعيا على النحو الذي تكتمل فيه اركانه.



د. السيد عبدالماجد
مركز الدراسات القانونية الاقتصادية واللوجيستيات
الاسكندرية - مصر
sayed.quisay@gmail.com
00201115870807 





[1] عبدالوهاب خلاف، علم اصول الفقه، مكتبة الدعوة الاسلامية " شباب الازهر " ، ص 22 وما بعدها
[2]انطر : الشحات ابراهيم منصور ، اصول الفقه الاسلامي ، ص 70 - وانظر ايضا : عبدالله صالح الفوزان ، خلاصة الاصول، ص 4
[3] انظر : عبدالوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ، مكتبة الدعوة الاسلامية " شباب الازهر" ، الطبعة الثامنة ، ص 40
[4] انظر : الشحات ابراهيم منصور ، اصول الفقه الاسلامي ، مرجع سابق ، ص 71
[5] انظر : عبد الوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ، مرجع سابق ، ص 45
[6] انظر : الشحات ابراهيم منصور ، اصول الفقه الاسلامي ، مرجع سابق ، ص 73
[7] انظر : عبد الوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ، مرجع سابق، ص 48
[8] انظر : عبد الوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ، مرجع سابق، ص 52:51
[9] انظر : عبدالوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ، مرجع سابق ، ص 46
[10] انظر الشحات ابراهيم منصور ، اصول الفقه الاسلامي ، مرجع سابق، ص 74
[11] سورة النساء : اية 115
[12] سورة النساء : اية 59
[13] سورة آل عمران: اية 110
[14] انظر : الشحات ابراهيم منصور ، علم اصول الفقه الاسلامي ، مرجع سابق ، ص 73

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراحل ابرام المعاهدات في القانون الدولي.. د. سيد عبد الماجد

تاريخ اكتشاف النفط في قطر .. د. سيد عبدالماجد