اثر حصانة الدولة في تنفيذ حكم التحكيم الاجنبي....د. سيد عبدالماجد

اثر حصانة الدولة في تنفيذ حكم التحكيم الاجنبي
د. سيد عبدالماجد

في ظل تحول دور الدولة في النظام الاقتصادي القائم على حرية السوق بما ادى الى السماح لهيئاتها ومؤسساتها من الاشخاص المعنوية ان تتعاقد باسم الدولة في المسائل التجارية ، فقد تبرم ايا من تلك الاشخاص المعنوية الممثلة للدولة عقدا يتضمن اتفاقا على احالة المنازعات بشأن ذلك العقد الى قانون تحكيم اجنبي او لنظام مركز تحكيم يقع في دولة اجنبية ، او ان يتضمن الاتفاق اجراء التحكيم في دولة اجنبية. فإذا كان من المعلوم ان الدولة تتمتع بالحصانة القضائية التي تحول دون خضوعها لقضاء دولة  اجنبية.
ان اهمية البحث في اثر الحصانة القضائية والتنفيذية للدولة تتجلى عند تنفيذ حكم التحكيم على اموال الدولة المصرية في الخارج وكذلك بالنسبة لاموال الدول الاجنبية والهيئات الدولية المتواجدة في مصر. كما تتجلي اهمية البحث في الموضوع بالنسبة لمساعدة قضاء الدولة الاجنبية لهيئة التحكيم.
لذلك،
تقدم هذه الورقة إجابة تفصيلية عن السؤال الشائك : هل تظل الحصانة القضائية والتنفيذية قائمة في ظل اتفاق التحكيم الذي تبرمه الدولة ؟ وذلك من خلال القانون المصري مع اجراء مقارنة سريعة بين عدة تشريعات تصدت لتلك الاشكاليات، ولتناول الموضوع فقد تم تقسيمه على النحو التالي: 
اولا: اهلية الاشخاص الاعتبارية العامة في الاتفاق على التحكيم
ثانيا: حصانة الدولة في مقابل التزاماتها في اتفاق التحكيم

اهلية الاشخاص الاعتبارية العامة في اتفاق التحكيم
تخضع اهلية الاشخاص الاعتبارية العامة للنظام القانوني الخاص بها والمحدد لوظائفهم واختصاصاتهم[1]، وبمطالعة المادة الاولى من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 نجد ان المادة تنص على انه " ... تسري احكام هذا القانون على كل تحكيم بين اطراف من اشخاص القانون العام او الخاص ايا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع ، اذا كان هذا التحكيم يجري في مصر او كان تحكيما تجاريا دوليا يجري في الخارج او اتفق اطرافه على اخضاعه لاحكام هذا القانون. وبالنسبة الى منازعات العقود الادارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص او من يتولى اختصاصه بالنسبة للاشخاص الاعتبارية العامة ، ولا يجوز التفويض في ذلك."
يتضح من هذا النص الاتي:
1-اهلية الاشخاص العامة
يطبق قانون التحكيم سواء كان اطرافه هى الدولة او شخص قانوني عام او خاص اي ان هذا النص قد اجاز للدولة ممثلة في احد اشخاصها العامة ان تبرم اتفاق التحكيم ، وان هذا الاتفاق يخضع لاحكام قانون التحكيم.
2-نطاق ابرام الدولة لاتفاقات التحكيم 
يتبين من المادة المذكورة ان نطاق تطبيق قانون التحكيم يتسع ليشمل كافة العلاقات القانونية التي يدور حولها النزاع ، فيشمل كافة العلاقات بين الدولة والاشخاص الخاصة سواء تمثلت في عقد من العقود او في واقعة غير مشروعة وتحرر بشأنها اتفاق تحكيم، فجميع تلك العلاقات تخضع لحكم قانون التحكيم.
كما يتضح ان القانون قد اشترط بالنسبة للعقود الادارية ان يوقع الاتفاق من الوزير المختص او من يكون في حكمه بالنسبة للاشخاص الاعتبارية العامة . وتضيف المادة منعا للتفويض في التوقيع على اتفاق التحكيم.
وبناء على ما سبق نصل الى نتيجة مفادها ان المشرع المصري قد اعترف بأهلية الدولة والاشخاص العامة في الاتفاق على التحكيم.
واذا كانت اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ احكام التحكيم الاجنبية لم تورد نصا خاصا بأهلية الدولة في ابرام اتفاق التحكيم الا ان مجمل نصوصها تسمح بذلك ولا تتعارض معه.
اما بالنسبة للتشريعات الوطنية الاخرى ، نجد ان معظم التشريعات تعترف بأهلية الدولة في الاتفاق على التحكيم مثل النمسا واسبانيا وايطاليا وسويسرا والدانمارك وفنلندا والسويد والنرويج. وقد كانت المملكة العربية السعودية ودولة الجزائر لا تعترف بأهلية الدولة في ابرام اتفاقات التحكيم الا ان كلا منهما قد سمح مؤخرا بذلك[2].
وفي فرنسا اعترف المشرع الفرنسي بأهلية الدولة في الاتفاق على التحكيم بالقانون الصادر في 19 اغسطس 1986 ، فقد جاء في المادة التاسعة منه " بالمخالفة لنص المادة 2060 من القانون المدني يجوز للدولة والمؤسسات العامة ادراج شرط تحكيم العقود التي تبرمها مع الشركات الاجنبية لانجاز عمليات ذات مصلحة وطنية ، وذلك لتسوية المنازعات الناشئة عن تطبيق وتفسير هذه العقود."
وكان القضاء الفرنسي قد اجاز - في احكام سابقة - اهلية الدولة ومؤسساتها العامة في ابرام اتفاقات التحكيم في العلاقات ذات الطابع الدولي ، وهو ما يتضح من حكم لمحكمة استئناف باريس بتاريخ 21/ 1 / 1961 بقولها ان الحظر المفروض على الدولة بعدم اللجوء للتحكيم لا يعد من النظام العام الدولي ، وان العقد يعد من عقود القانون الخاص ذات الطابع الدولي ، وهو الاتجاه الذي ايدته محكمة النقض الفرنسية ايضا في حكمها الصادر في 14 / 4 / 1964.
وفي نفس الاتجاه نجد ان اتفاقية جنيف بشأن التحكيم الدولي 1961 قد اكدت على اهلية الاشخاص المعنوية في الاتفاق على التحكيم حيث نصت المادة 2/1 من الاتفاقية على انه " الاشخاص المعنوية التي تعتبر وفقا للقانون واجب التطبيق عليها من اشخاص القانون العام تكون لها القدرة على ابرام اتفاقات تحكيم صحيحة".

حصانة الدولة و التزاماتها في اتفاق التحكيم
لم تكن الدول تقبل المساس بحصانتها قبل انتقالها الى اقتصاد السوق الحر ، اذ بممارسة الدولة للنشاط الاقتصادي  تغيرت نظرتها لمسألة الحصانة ، وبدات الدول كما سبق ان ذكرنا تقبل بابرام اشخاصها الاعتبارية لاتفاقات التحكيم.
والحصانة التي تتمتع بها الدولة في اطار موضوعنا تنقسم الى نوعين حصانة قضائية وحصانة تنفيذية :

§       بالنسبة للحصانة القضائية
يذهب رأي فقهي الى ان ابرام الدولة لاتفاق التحكيم يتضمن الموافقة على جميع الاثار القانونية التي تترتب على هذا الاتفاق ولو كان فيه مساس بالحصانة القضائية وينطوي ايضا على تنازل ضمني عن الحصانة القضائية بالنسبة للنزاع محل التحكيم[3].
في حين ان القضاء المصري يأخذ بما يسمي بالحصانة القضائية المقيدة اي ان الدولة تحتفظ بحصانتها القضائية بالنسبة لاعمال السلطة العامة ، اما التصرفات الخاصة بالتجارة او اشباع الحاجات المختلفة فلا يكون للدولة اية حصانة قضائية بشأنها.
وعلى هذا النهج يسير ايضا القضاء الفرنسي والمشرع ا لامريكي حيث استبعد كلا منهما الانشطة التجارية التي تمارسها الدولة من الحصانة القضائية واحتفظ بها فقط بشأن اعمال السلطة العامة.
§        
بالنسبة للحصانة التنفيذية
فهى مسألة معقدة ، ذلك ان الامور تجري بأن يحصل شخص على حكم تحكيم ضد الدولة ثم يلجأ  لمؤسسات ذات الدولة للمطالبة بتنفيذ الحكم ضدها ، او يلجأ الى مؤسسات دولة اخرى للمطالبة بتنفيذ حكم تحكيم ضد دولة اخرى.
لذلك فقد اختلف الرأي بشأنها ، فذهب رأي الى ان اتفاق  التحكيم الذي تكون الدولة احد اطرافه لا يمكن ان يمتد الى اجراءات التنفيذ، تأسيسا على ان الرضا بالتحكيم يعني فقط النزول عن الحصانة القضائية بالنسبة للفصل في النزاع بواسطة التحكيم والخضوع لسلطة القضاء المختص بالمساعدة والرقابة بالنسبة لهذا التحكيم، ولا تخضع الدولة الاجنبية او الهيئة الدولية لاجراءات التنفيذ الا اذا كانت قد وافقت صراحة على منح الاختصاص بتنفيذ حكم التحكيم لمحكمة اجنبية.
فيما ذهب الرأي الراجح الى ان اتفاق التحكيم تضمن التنازل عن كلا من الحصانة القضائية والحصانة بالنسبة لاجراءات تنفيذ الحكم ايضا ، تأسيسا على انه ليس من المقبول للدولة او المنظمة الدولية بالتعاقد مع الغير والاتفاق على التحكيم ثم تتحلل من نتائج الاتفاق اي تنفيذ الحكم الصادر في هذا التحكيم[4].
واذ نرجح هذا الاتجاه فإننا نؤسسه على انه اذا كان من حق الدولة المحافظة على مصالحة انطلاقا من اعتبارات السيادة فانه يجب ايضا حماية حقوق الافراد ، وخاصة ان الدولة قد سمحت لنفسها بممارسة الانشطة التجارية وبالتالي يتعين ان تقبل بالتزاماتها في اتفاق التحكيم اي بتنفيذ الحكم الصادر ضدها.
وقد استقرت معظم الدول ومحاكمها على ان موافقة الدولة على ابرام اتفاق التحكيم مع طرف من اشخاص القانون الخاص يعد تنازلا من الدولة عن الدفع بالحصانة ضد التنفيذ، وهو ما قننته الولايات المتحدة الامريكية في قانون التحكيم الفيدرالي رقم 16 لسنة 1988 في المادة 15 بنصها على انه " ان تنفيذ اتفاقات واحكام التحكيم المشار اليها لا يجوز رفضه استنادا الى مبدأ سيادة الدولة."
وقد قضت محكمة النقض الفرنسية بذلك في قضية  (Creighton) حيث كانت غرفة التجارة الدولية قد حكم بالتعويض لصالح شركة (Creighton) ضد حكومة قطر. وقد حكمت محكمة الاستئناف الفرنسية برفع الحجز الصادر لصالح الشركة على اموال دولة قطر في فرنسا استنادا على حصانة دولة قطر ضد التنفيذ، الا ان محكمة النقض الفرنسية الغت هذا الحكم وقضت بأن التنازل عن الحصانة ضد التنفيذ يمكن ان يستشف من قبول الدولة تنفيذ حكم التحكيم طبقا للمادة 24 من قواعد غرفة التجارة الدولية[5].
في الختام نؤكد على ان معظم التشريعات الوطنية اتجهت الى اقرار اهلية الدولة واشخاصها الاعتبارية في ابرام اتفاق التحكيم ومنها مصر.
كما اتضح ان معظم الدول قد استقرت على استبعاد التمسك بمبدأ السيادة وما يترتب عليه من حصانة قضائية على اعتبار ان ابرام الدول لاتفاقات التحكيم هو تنازل منها عن الحصانة القضائية ، وبالنسبة لتنفيذ الاحكام فقد استقرت الدول على خضوعها لتنفيذ الاحكام الصادرة ضدها بالنسبة للانشطة الخاصة التي تمارسها واحتفاظ الدول بحصانتها التنفيذية بالنسبة لاعمال السلطة العامة.
واذا كان هناك اقتراح بشأن الحصانة فاننا ندعو المشرع الى التقليل من اجراءات التنفيذ المطلوبة بشكل عام وخصوصا بشأن احكام التحكيم التي يراد تنفيذها ضد الدولة ، فذلك من شأنه ان يرسخ من احترام احكام التحكيم وهو ما ينعكس على المستثمرين الاجانب في مصر.

د. السيد عبدالماجد
مركز الدراسات القانونية الاقتصادية واللوجستيات
الاسكندرية - مصر
sayed.quisay@gmail.com
00201115870807 

[1] احمد هندي ، تنفيذ احكام المحكمين ، دار الجامعة الجديدة ، طبعة 2009، ص 29
[2] سراج حسن ابوزيد ، التحكيم في عقود البترول ، دار النهضة العربية ، 2004 ، ص 308
[3] فتحي والي ، التحكيم في المنازعات الوطنية والتجارية الدولية علما وعملا، منشأة المعارف باالاسكندرية ، طبعة  اولى 2014، ص 207
[4] فتحي والي ، التحكيم علما وعملا..، مرجع سابق ، ص 209
[5] الحكم اشار اليه عصام الجنايني ، تنفيذ احكام التحكيم في القانون المصري والمقارن، بدون دار نشر ، 2013 ، ص 542

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراحل ابرام المعاهدات في القانون الدولي.. د. سيد عبد الماجد

تاريخ اكتشاف النفط في قطر .. د. سيد عبدالماجد

الاجماع .. كأحد مصادر التشريع الاسلامي