المدرسة الاصلاحية في فكر الامام محمد عبده .. د. السيد عبد الماجد

 

 

المدرسة الاصلاحية

في فكر الامام محمد عبده

مقدمة

يعد الامام محمد عبده ( 1849م – 1905 ) رائد الاصلاح والتجديد ومؤسس المدرسة العقلية في اواخر القرن التاسع عشر ، واحد ابرز المفكرين في تاريخ الفكر الاسلامي في العصر الحديث ، تتلمذ على يد الشيخ جمال الافغاني واخذ منه الفكر التجديدي الذي بلوره في حركة الاحياء والتجديد التي قامت في الاقطار الاسلامية في العصر الحديث[1].

ولد الامام محمد عبده في احدى قرى محافظة البحيرة شمال مصر ، وتعلم العلوم الشرعية في الجامع الاحمدي بمدينة طنطا ثم انتقل الى الازهر الشريف عام (1865م) فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة وغيرها من العلوم الشرعية واللغوية حتى حصل على شهادة العالمية عام (1877م) وكان يكتب مقالات اثناء في جريدة الاهرام المصرية اثناء دراسته في الازهر، الجدير بالذكر ان الازهر لم يكن ، في ذلك الوقت ، يدرس العلوم الدنيوية مثل الطب والرياضيات والكيمياء وغيرها من العلوم ذلك لان الازهر كان يرفضها ويعتبرها علوما محرمة في ذلك الوقت الامر الذي تغيير لاحقا واصبح في الازهر كليات تدرس هذه التخصصات في الوقت الحالي[2].

 

حياته العملية

بدأ الامام محمد عبده حياته العملية من خلال مجلة الوقائع المصرية حيث تولي تحرير المقالات الاصلاحية والادبية والاجتماعية لمدة سنة ونصف استطاع ان يجعل من الوقائع منبرا للإصلاح الديني والدنيوي. فقد ضم الى الى المجلة كل من سعد زغلول ن وابراهيم الهلباوي وغيرها ممن بلوروا اسس ومنطلقات حركة الاحياء والتجديد في مصر والعالم الاسلامي ، وفي المواجهة كان هناك تيار تغريبي يدعوا الى النقل والتقليد من الحياة الاوروبية وخاصة في المجال الثقافي وهو ما لاقي مقاومة فكرية من الامام محمد عبده واصدقاؤه في الحركة الاصلاحية.

نفي الامام

مع الاحتلال الانجليزي لمصر تم نفي العديد من الشخصيات المؤثرة في الحياة السياسية المصرية وكان على رأسهم الامام محمد عبده ، الذي انتقل الى بيروت ومنها الى باريس ليؤسس فيها بالاشتراك مع استاذه جمال الدين الافغاني مجلة العروة الوثقى صاحبة الثمانية عشر عددا ، الى ان تم اغلاقها لما اثارته من نشر الفكر التحرري والاصلاح الديني والفكري في العالم الاسلامي . واضطر الامام الى العودة الى بيروت فعمل في التدريس وتأليف الكتب منها ( بديع الزمان الهمذاني ، شرح نهج البلاغة) بالإضافة الى عدد من المقالات في جريدة ثمرات الفنون البيروتية ، وبعد ستة سنوات عاد بعدها الى مصر بعد ان صدر قرار بالعفو عنه وعاد للعمل قاضيا في احدى المحاكم المصرية وتسنى له الاطلاع عن قرب على القوانين الشرعية المعمول بها في المحاكم وهو ما ساعده على طرح افكاره بشأنها وخاصة عندما تولى دار الافتاء المصرية[3].

خطة الاصلاح :

        ان صلة الدين بالعقل وثيقة لدى الامام محمد عبده ، فيقول " ان العقل وحده لا يستقل بالوصول الى ما فيه سعادة الامم بدون مرشد الهي.. وقدر رفع القرآن من شأن العقل ووضعه في مكانه بحيث ينتهي اليه امر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع."[4] ، لقد كان الامام ينادي بمجموعة من الاصلاحات التي دعى اليها عبر جميع المنابر المتاحة، ومن اهمها:

1-  تحرير الفكر من التقليد ، ويجب ان يكون فهم الدين على طريقة السلف قبل ان يظهر الخلاف بينهم.

2-  اصلاح اساليب اللغة العربية

3-  التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة.

4- اذا تعارض العقل والنقل ، فقد رأي ان اهل الملة الاسلامية يأخذون بما دل عليه العقل لأن القران رفع من شأن العقل ووضعه في مكانه اعلى في التمييز بين الحق والباطل والضار والنافع.

 

محاور فكر الامام:

يمكن القول ان للإمام محمد عبده الكثر من الافكار في مختلف مجالات الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية فقد كان عقلية موسوعية محيطة بمعظم العلوم في عصره ، حيث كان يسعى الامام الى الاصلاح الديني ، فيقول الامام في ذلك " تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الامة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعها الاولى ، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه ، وتقلل من خلطه وخبطه ، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الانساني ، و انه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم ، باعثا على البحث في اسرار الكون ، داعيا الى احترام الحقائق الثابتة ، مطالبا بالتعويل عليها في ادب النفس واصلاح العمل ، كل هذا اعده امرا واحدا . وقد خالفت في الدعوة اليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الامة : طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم ، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم."[5]

 وفيما يلي اهم المحاور لاسهاماته الفكرية :

1-    حرية الفكر والتجديد: يقول الامام " ان الاسلام اطلق سلطان العقل من كل ما كان قيده وخلصه من كل تقليد كان استعبده ، ورده الى مملكته يقضي فيها بحكمه وحكمته ، مع الخضوع مع ذلك لله وحده ، والوقوف عند شريعته ، ولا حد للعمل في منطقة حدودها ، ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها."[6]

2- مكانة العمل في الاسلام: يقول الامام " طالب الاسلام بالعمل كل قادر عليه ، وقرر ان لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ، واباح لكل احد ان يتناول من الطبيات ما شاء اكلا وشربا ولباسا وزينة ، ولم يحظر عليه الا ما كان ضار بنفسه ، او بمن يدخل في ولايته ، او ما تعدى ضرره الى غيره ، وحدد له في ذلك الحدود العامة بما ينطبق على مصالح البشر كافة ، فكفل الاستقلال لكل شخص في عمله ، واتسع المجال لتسابق الهمم في السعي حتى لم يعد لها عقبه تتعثر بها ، الا حقا محترما تصطدم به."[7]

3- البعد عن التكفير : يقول الامام " هلا ذهبت من هذين الاصلين الى ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد احكام دينهم، وهو اذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر مائه وجه، ويحتمل الايمان من وجه واحد ، حمله على الكفر ، فهل رأيت تسامحا مع اقوال الفلاسفة الحكماء اوسع من هذا ؟؟ وهل يليق بالحكيم ان يكون من الحمق هذا المبلغ كان الاجدر به ان يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقى في النار."[8]

4- القضاء والقدر: يقول الامام " القضاء هو علم الله السابق بحصول الاشياء على احوالها في اوضاعها ، والقدر هو ايجاده لها عند وجود اسبابها ، ولا شئ منها يضطر العبد لفعل من افعالها ، فالعبد وما يجده في نفسه من باعث على الخير والشر ولا يجد شخص الا ان اختياره دافعه الى ما يعمل ، والله يعلمه فاعلا باختياره ، اما شقيا به و اما سعيدا."[9].

5- تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: يقول الامام " اشرع اليك بذكر اصل يتبع هذا الاصل المتقدم قبل ان انتقل الى غيره : اتفق اهل الملة الاسلامية ، الا قليلا ممن لا ينظر اليه ، على انه اذا تعارض العقل والنقل اخذ بما دل عليه العقل، وبقى في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول ،مع الاعتراف بالعجز عن فهمه ، وتفويض الامر الى الله في علمه ، والطريق الثانية : تأويل النقل ، مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما اثبته العقل."[10]

6-  الاعتبار بسنن الله في الخلق " يقول الامام " يتبع ذلك الاصل الاول في الاعتبار هو ان لا يعول بعد الانبياء في الدعوى الى الحق على غير الدليل، وان لا ينظر الى العجائب والغرائب وخوارق العادات اصل اخر وضع لتقويم ملكات الانفس القائمة على طريق الاسلام واصلاح اعمالها ومعاشها ومعادها ، ذلك هو اصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر ، وفي آثار سيرهم فيهم." ، ويقول ايضا " ان لله في الامم والاكوان سننا لا تتبدل ، السنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الاثار ، وهى التي تسمى شرائع او نواميس ، ويعبر عنها قوم بالقوانين ."[11]

7- جناية الجمود على العقيدة : يقوم الامام " ذلك جمودهم في العمل ، واشد ضررا منه الجمود في العقيدة ، نسوا ما جاء في الكتاب وايدته السنة من ان الايمان يعتمد اليقين، ولا يجوز الاخذ بالظن ، وان العقل هو ينبوع اليقين في الايمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق بالرسالة وان النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة وفروض العبادات وهيآتها ، وان العقل ان لم يستقل وحده في اداراك ما لابد فيه من النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله ، وبأنه يجوز ان يرسل الرسل فتأتينا عنه بالمنقول .. نسوا ذلك كله ، وقالوا : لابد من اتباع مذهب خاص في نفس المعتقد ، بل ذهب بعضهم الى انه لا بد من الاخذ بدلائل خاصة للوصول الى ذلك المعتقد ، فيكون التقليد كالتقليد في المدلول ، وكأنهم جعلوا النقل عمادا لكل اعتقاد ، وياليته النقل عن المعصوم ، بل النقل ولو عن غير المعروف، فتقررت لديهم قاعدة : ان عقيدة كذا صحيحة ، لان كتاب كذا للمصنف فلا يقول ذلك . ولما كانت الكتب قد تختلف اقوالها صار من الصعب ان يجدا الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة . وقد سرى ذلك من قراء المقلدين الى اميهم ، فتراهم يعتقدون كل ما يقال وينقل عن معروف الاسم وان لم يكن في حق الامر من اهل العلم ، وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض مسموعاتهم."[12]

8- الدين والفطرة الانسانية : يقول الامام " ان الشعور بوجود اله يتصرف في الاكوان تصرفا غيبيا فوق تصرف المخلوقات ، بما يكون من افضاء الاسباب الى المسببات ، قد عرف في جميع البشر ، من ادنى القبائل الهمجية الى ارقى شعوب المدنية فهو شعور يستوى فيه الحفاة العراة في صحارى افريقيا وجزائر المحيط وفلاسفة اليونان في الماضي وفلاسفة الافرنج الان ،وقد عرف في الفريقين عن قدماء المصريين والكلدانيين والهنود ، كما هو معروف في هذا العصر ومثل هذا الاتفاق بين الشرقي والغربي  والشمالي والجنوبي في جميع الازمان ، من غير تواطؤ ولا تقليد ولا تلقيين ولا تعليم ، لا يعقل الا انه فطري في البشر. فإن قيل ان في الناس من لا يؤمن بالله ولا بعالم الغيب ، كالماديين من الفلاسفة ومقلديهم ، ولو كان ذلك الشعور فطريا لكان عاما ولم يعر منه هؤلاء ، فإننا نقول : ان من لا يؤمن بسلطة غيبية غير خاضعة للاسباب المعروفة نادر جدا ، والقاعدة لا تنقض بالنادر ، بل تبقى صحتها الثابتة بالدليل ، ويبحث عن سبب شذوذ النادر ، كما يبحث الماديون وغيرهم من علماء الكون عن اسباب الشذوذ الذي يعبرون عنه بفلتات الطبيعة ، ولا يعدون هذه الفلتات دليلا على بطلان السنن والنواميس العامة في الكون."[13]

اهم الكتب :

للاطلاع على افكار الامام محمد عبده الاصلاحية يمكن الاستعانة بكتابة " رسالة التوحيد" التي تعتبر درة الكتب الاسلامية الاصلاحية التجديدية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بالإضافة العديد من الكتب والمقالات ، ومن اهمها:

1-  رسالة في وحدة الوجود.

2-  شرح نهج البلاغة

3-  شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني.

4-  نظام التربية والتعليم في مصر.

5-  تاريخ اسماعيل باشا.

المراجع

1.    الامام الشيخ محمد عبده، رسالة التوحيد، مطبوعة " دراسات اسلامية ، تصدر عن المجلس الاعلى للشئون الاسلامية بوزراة الاوقاف المصرية ، 2009.

2.    محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، الجزء الثالث، دار الشروق ، 1993

3.    الامام الشيخ محمد عبده ، شرح نهج البلاغة ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، بدون سنة نشر.

 



[1] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، دار الشروق ، 1993،  ص22

[2] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده  المرجع السابق،  ص24

[3] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده  المرجع السابق، ص 25

[4] الامام الشيخ محمد عبده، رسالة التوحيد، مطبوعة " دراسات اسلامية ، تصدر عن المجلس الاعلى للشئون الاسلامية بوزارة الاوقاف المصرية ، 2009.، ص 128

[5] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، الجزء الثالث، دار الشروق ، 1993،  ص 184

[6] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق، ص 455

[7] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق ، ص 454

[8] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق ، ص 302

[9]  3.    الامام الشيخ محمد عبده ، شرح نهج البلاغة ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، بدون سنة نشر، ص 89

[10] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق ، ص 301

[11] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق ، ص 303

[12] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق ، ص 343

[13] محمد عمارة ، الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده ، مرجع سابق ، ص 501

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراحل ابرام المعاهدات في القانون الدولي.. د. سيد عبد الماجد

تاريخ اكتشاف النفط في قطر .. د. سيد عبدالماجد

الاجماع .. كأحد مصادر التشريع الاسلامي